قصة قصيرة " الفداء " للدكتور حسين صبري
قصة قصيرة؛ الفداء
ابتلع صمته في صدره ... لفه بقيد حديدي صلب ... لم يدع فكرة واحدة تنسل خارج رأسه ... امتلك أفكاره كلها ... أحاطها بتركيز واع شديد ... أحس أن شيئا خفيا يشده بإحكام إلى الأرض ... نار حلوة تسري في عروقه ... حاول أن يتزحزح ... لم يستطع ... دقات قلبه ترن في أذنيه ... قاوم شعوره للوهلة الأولى ... اكتشف صمته المرير ... أدرك في لحظة قصيرة أن ضعفه قوة ونيته الخيرة عدل مطلق .. سارت كلمات قائده في دمه نبضا لا يهدأ ... اختار المهمة بإصرار فاق إصرار رفاقه ... بإرادة لا يشوبها قلق أو لمحة من تردد ... يعلم جيدا أنها مهمة من تخلى عن أحلامه ... يقينه معه ... يرى مقامه هناك فوق غيمة من نور ... غايته أن لا تعود إليه أحلامه التي ودعها في صمت ... انتصب بقامة مشدودة ... ربت على لباسه ... اتقت كفاه في قبلة نشوانة ... سكري لا تفيق ... الغاصب أهوج لكن ترابي أنقى وأطهر ... أفضى بها لقلبه ... مضى من غير أن يحلم ... مر براحتيه على صفحة وجهه فاحتواها ... شم عطر الفجر الأخاذ يعبق الأجواء حوله ... رائحة البحر في نداء الطل يغزوان أنفه ... يستقران في رئتيه ... لم تتحرك قدماه ... لا زال يلم الأفق في عينيه ... يرنو إلى كل الجهات ... تمنى لو يحتوي العالم في نظرة واحدة ليغمض جفنيه ويحلم كما كان يفعل دائما ... همت ساقاه بالاندفاع ... بدأتا تتحسسان مواضعهما ... غلالات خفيفة من ضباب أبيض تجمعت فبدت كواجهة زجاجية لامعة تطل من ورائها مرتفعات كثيفة بائسة ... أذابت بقايا خيط الليل السود لونها في لون قاتم ... فبدت وسط أكوام الضباب كمخلوق خرافي تكوم على نفسه ... يتلوى ويتمدد ... حاملا في جنبيه بركانا ثائرا وفي حلقه عطش أعمى لرائحة الدم ... مسح براحته اليمنى قطرات باردة تجمعت فوق جبهته ... نظر إلى حيث لا يرى ... مسج جفنيه ... توقفت قدماه ... جسم داكن قابع أمامه بقليل يناضل بقايا خيط الليل الأسود ... ينسل إلى داخله ... تمتد يده ... تدور في شكل نصف دائري ... تعود ومعها يعود ... بدت نافذة عريضة أمام عينيه ... استقر في مكانه .. يصمت .... لحظة طويلة يرقب فيها سيارته ... أبانت عن إصرارها مع خيط النهار الأبيض ... يمد ذراعا أسطورية في جوفه ... يقتلع من جنبيه مضغة يعصر الخوف فيها ما بين كفيه ... تمتد يده كيد أم رءوم برضيعها تمسح على جبهته ... يربت على صندوق وضعه متحفزا إلى جواره ... للمرة الأولى في حياته يزن أحلامه كلها بما يحتويه الصندوق ... يسترد يده على مهل ... ينظر صوب السماء ... وجهها يتفصد نارا عذبة ... يهتف في أعماق نفسه :
- إن الشعلة لازالت في يدي
ينتبه إلى خيوط سوداء تجر بقاياها متسللة لتختفي وراء زرقة السماء واللون الضبابي يغيب خجلا من نسمات الفجر الأولى ... تمتد يداه ثانية ... تمر برفق على جميع الأشياء من حوله ... تلامسها ... تهدهدها ... ينادي في رقة وعذوبة :
- سيارتي وأنيسي ...
يغفو ... برهة خاطفة ... يثب نشيطا ...يجذب الى صدره شهيقا عميقا ... كاد أن يفرد ذراعيه يحتضنها ... كفارس قبل أن يخوض غمار معركته يميل إلى فرسه ... يداعبه ... يحنو عليه ... يمطره ودا وإشفاقا عليه من رحلة يعلم شدتها وشراستها... تمتد يده وتتحرك ... تهتز سيارته ...يصدر لها أزيز هادئ متلاحق ... تتمتم شفتاه بكلمات دافئة آتية من السماء ... يبدو بصره سابحا في ثناياها وأغوار معانيها ... تملأ نفسه خشوعا وصدقا ... لحظات يقتلها ظمأ في صدره ... تملك عليه منافذ إحساسه ... يمزق صوت محرك السيارة سكون نفسه ... تشرع في حركة سريعة ..ز الخيط الأبيض يملأ الأفق رويدا رويدا ... مازال يسير ... يبعثر ضياعا هائلا أحسه في نفسه .
يتساءل :
- أهذا الضياع حقيقة في نفسه أم في تلك الأيام التي تتلوى كأفعى حول عنقه ؟
تمنى لو يبتلع صرخات الجوعى في جوفه ليسكتها ويشبعها ... لو يستطيع أن ينسج من شرايينه خرقة بالية تستر عورة أخوته ورفاقه ... ينظر في ساعته ... لم يتبق غير دقائق عشر ... الطريق يتلوى كأن بأمعائه تقلصا حادا ... ينظر إلى وجهه البائس ... يصب على ترابه لهفة وحنوا ... يسري إليه بأنه المداوي وعلى راحتيه الدواء ... يدور بعينيه في تراب الأرض ... يغوص ... ينقب عن شيء ... يشعر لحظتها أنه غواص محترف ... يبحث عن صدفات بعينها ... يفيق القاع في بهاء ... يدور ... عيون وأسماء تحملق فيه ... تشده ... تستحثه ... ألف لغز وألف سر ... دار في متاهات الألغاز ... أصابه دوار ... طلاسم الأسرار تعربد في تجاويف دماغه ... تشل ذاكرته ... تموت مشاعره بين أصابع اللحظة الجامدة ... الخالدة ... الخيط الأبيض من الصبح يسفر عن وجهه ... اللون الأحمر يزهو .. المرتفعات تعلو وتعلو ... يعلو معها .... يطاولها ... يمتد فوق أعاليها ... يجثو بركبتيه ... يحاول الركوع ... لا تسعفه فقرات ظهره ... تحت ظلال الأشجار الوارفة يلمح ظلا لاثنين ... يلتقي عندها فكاه في شراسة ... تذيب بقايا صبر مر في حلقه ... الأفعى تذيب السم في جناحي الطائر الرقيق ... لا يقوى على الطيران ... يحفر في التراب ...
يباغته سؤال ... يلح عليه :
- أهذا التراب يزين أحياءه ؟
يجيب :
- إذا فقدنا التراب فسوف يولد من طينه إنسان آخر
لكنه يسأل بحدة :
- هل ينجب الإنسان ترابًا ؟
السؤال يطرحه أرضا ... يلقيه بعيدا ... ما بين جبلين عظيمين ... في سفح بدون قرار ... يقترب منه ... ينأى القرار بعيدا ... يناديه بلسان أخرس ... ينزف السفح دما أسود .... يتقيأ أوراقا يابسة ... هتف وهو يمد ذراعيه يلم جنبات السفح :
فليحيا التراب وهذه الأرض وأموت أنا .
تعليق / الرد من
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!
أحدث المقالات
المقالات الموصى بها
التصويت / استطلاع
هل تستفيد من موقع الدكنور حسين صبري؟
نعم
لا
غالباً
83%
0%
17%