قصة قصيرة " الجثة " للدكتور حسين صبري
قصة قصيرة؛ الجثة
يصارع الرجل سنينه وتصارعه ... يغلبها مرة وتصرعه مرات .. تبعث الأمل فى نفسه حيناً لتقتله في مهده أحيانا كثيرة .. يألف مرارة أيامه .. يستعذب أنفاسها الخانقة .. يطوى أحزانه .. يلوح الهدف بعد معاناة وصبر .. يبتسم له لحظة بعد أن طال عبوسه فى وجهه وتعقدت من أمامه سحنته .. تفسح له أيادي النعمة درباً رقيقاً لا يمل السير فيه .. تغدق عليه بفيض من البهجة لا يراها تنقضي فى أعمار متواصلة لو قدر له أن يعيشها .. أخيراً يغتنم فرصته للسفر .. يحلم بها طويلاً .. يستطيع الأن أن يعمل كما أراد وأن يغير من حياته ويحقق ما تمنى .. يمتلك فرصته .. تصير بين يديه .. تساوره الشكوك فى حقيقتها .. يتذكر أنه تصور وتوهم لكنه لم يطمح لحظة واحدة فى أن يصير إلى ما صار فيه .. يسترخى .. يراهم في عينيه .. يودع فى نظراتهم حضناً رطبا .. ترتمي يداها بين يديه .. يهمس إليها :
- اصبري .. سأسعى بكم ..
قالت بألم وجمرة الدمع تكاد تفلت من بين أهدابها المرتعشة :
- لكنك ستغيب ..
أطل على صغاره وهم يحملقون فيه لا يدركون لماذا قرر أن يغادر بعيدا .. اتجه إليها وقال برجاء بالغ :
- إنهم منا .. كوني لهم ..
أجابته من فورها وقلبها يكاد أن يقفز ليستقر بين ضلوعه :
- إني لهم ... ولك ..
يوقظه الحلم الى واقع غريب تمنى من قبل أن يطل عليه ... تسترضيه أيامه .. يسعى بطاقة لم ينتبه يوماً أنه يمتلكها .. توشك أن تنضب فى ساعديه .. فى صدره .. فى عقله .. تحمله كلمات وريقات صغيرة تأتيه .. الى هناك .. مع أنفاسهم الدافئة وصراخهم ومطالبهم التى لا تنتهي .. يبتسم .. يلقى بوريقاتهم على صدره ويحلم .. تنبعث حياة جديدة في عروقه .. تلتهب أنفاسه .. يخرج مليئاً بطاقته وشبابه الذى صنعه لنفسه بإتقان من كلماتهم الحلوة .. يزهر من كفيه ودمه نعمة يرونها حلماً يولد فى لحظات خاطفة .. يحمل إليهم .. هناك ... أمانيهم واقعاً حياً لا يصدقونه .. تأتيه الكلمات من نبضهم وهمساتهم تلفه بشوق لذيذ .. يصحو على إطلالته وحروفه .. يميزها جيداً .. يصنع منها فى خياله شعراً ووروداً باسمة .. يتلهف .. يكبح لهفته .. يلمحهم بين جفنيه بقوة .. تنبعث حياة جديدة فى عروقه .. يخرج مليئاً بطاقته كمخلوق جديد يصنعه فى نفسه .. لا يصدق صنعته .. يسعى .. يتحرك .. تخرج من بين أصابعه وخلجات عقله حياة حلوه وصور باهجة يحسده عليها غيره .. وهو فى صحوته لا يعبأ بنظراتهم .. يراها حروفاً متلهفة تحملها إليه وريقاتهم من هناك .. تخفف من اغترابه وقسوة الفراق .. يعزى روحه بأن غربته سبب لسعادتهم .. يبذل من جسده العرق و الدم .. يغزل لهم ظلا رحباً طيباً .. تتعب الأيام من عناده .. تنساق بين يديه لا تعي لحظاتها .. يعب منها فى نهم .. يرى فيها غداً أمنا .. لم يعد يذكر أن ماضيه كان قاسياً وعنيداً .. يمسك حاضره بقدرة فاقت تصوره .. من جديد .. تأتيه وريقاتهم .. تحمله كلماتهم الى إغفاءة لذيذة يحلم بها .. يرى عيون صغاره تطل من خلفها عينان يلمحهما جيداً .. يتغامزان .. يشير إليها بطرف خفي :
- لا تقلقي .. سآتي ..
يبقى حلمه فى صدره .. تنبعث فيه حياة شابه فتية .. يسعى.. تتهمه نظرات الآخرين من حوله .. سؤال قبيح يتردد فى عيونهم :
- كيف يسعى كالتائه الحالم ..؟ والى متى .. ؟
يرى نظراتهم فى كل مرة يرمقونه حروفاً دافئة .. آتيه من هناك .. تحملها كلماتهم إليه .. يصنع لنفسه منها شعراً بديعاً يسطره على لسانه بأوزان أبدعها لم يسبقه فيها خيال شاعر ولا لسان متخيل بارع .. الوريقات تأتيه .. ينساها .. يقرر فى لحظة .. يذهب ...
هناك....
وسط أنفاسهم الدافئة وأحلامهم العذراء .. تلتقي القلوب فى نبض واحد وتستأنس العيون باللقاء .. يختبئ الكل فى ظل ضلع كبير .. أرحب من وجودهم كله .. يعبون من أنسام اللقاء لا يشبعون .. يملأ الدار بصوته ومداعباته .. يسعى إلى عينيها .. يرقب لغتها .. يتغامزان .. يمرحان .. يشبعان من الذكرى وعناق أحلامهما .. يصوران الواقع .. يلفانه بثوب لا يخدع ولا يعرف الخوف الذى كان .. تأتيه لحظة العودة .. لكنها لا تبعث فى نفسه الملل ولا تملى عليه حلاوة القرب لغة الرفض لاغترابه .. تدفعه بسماتهم النقية التى صورها بيديه ودمه وحبات عرقه .. يذهب ... يسعى حين تأتيه كلماتهم من هناك ... تحمله وريقاتهم الى إغفاءته الحالمة .. يصورها دنيا غريبة .. يحيا بها ... يسعى بطاقة خارقة .. تلتهمه نظرات الآخرين فى غير شفقة .. والسؤال القبيح يستقر فى عيونهم :
- إنه لا يشبع .. السنوات فى عمره لحظات سائغة .. هل صنع من الصخر .. ؟ أم تراه من غير البشر .. ؟
يرى نظراتهم وسؤالهم حلماً يمتلكه ويتمنونه .. يصنعه ويعشقونه .. تأتيه كلماتهم .. تحمله الى هناك .. وسط أنفاسهم الدافئة .. يملأ إحساسهم صدره .. تنبعث الحياة الجديدة فى نفسه .. تأتيه الوريقات :
- لا تقلق .. اصبر ..
يضع كلماتها قلباً وليداً يدق بين أضلعه .. بصراً يرى به عالمه الجديد .. خطوة لا تعرف الملل ولا تحس الألم ولا تعرف الشكوى والضجر... يحلم .. يسعى .. يقبض على حاضره بكف عنيدة .. يتملكه .. يتوارى من ثقل الأيام .. تمر سنوات .. يغلبه شوق لذيذ .. يقرر .. يذهب .. هناك ....
وسط أنفاسهم الدافئة وأحلامهم العذراء .. يلتقي الجميع فى نبض واحد وفى حضن واحد .. يرى العيون تائهة .. يحاول أن يلمها.. تأتيه نظرات صغاره فى لحظات قصيرة تنصرف بعدها إلى لهو عجيب .. يلتقي الصغار به فى كلمات باردة كصدور لا تنبض ..لا يسال نفسه ..يقنع باقترابه منهم ..يستعذب راحته وسط لهوهم الغريب ..تأتيه لحظة العودة ..يملأ نفسه بالصبر .. يزرع فى ترابه جذورا شابه من إرادته .. يشتد عناده .. يسعى .. تخرج من بين أنامله وخلجات عقله حياه حلوة باهجة .. يراها .. يؤكد لنفسه إنها هي هي .. يفكر مليا .. يلمحها .. يراها حزينة .. يتساءل:
- هل هي آسفة ..؟
يظل حائرا دون إجابة ..
من هناك ..تأتيه وريقاتهم ..الكلمات تتضاءل ..تصير كأحداق تائهة يغلبها النعاس ..تخرج من بين أنامله حياة حلوة تلعق مرارة ..يراها ..لكنه يؤكد لنفسه انه لا يراها ..يحلم .. تأتيه كلماتهم .. إغفاءة حالمة .
يقرأ ما وراء السطور :
- لا تقلق .. كن مع نفسك..تجذب الكلمات بقايا أحلامه ..تتشتت ألوانها في لون الرماد ..يهرب إلى نظراتهم ..تلمه أنفاسهم الدافئة هناك ..يسعى .. يحلم .. يعجز عن إجابة سؤال يمزق شرايينه ..يسرق الملل بقايا أحلامه ..يقرر فى نفسه ..يذهب .. إلى هناك .... يحاول أن يلمهم .. يسرى شيء في عروقه لا يدركه .. يلتفون من حوله .. يتضاحكون .. ينشطر الى ألف نصف .. يسرقه الشىء .. يسلب من عينيه بقايا إغفاءة حالمة .. تتطاير ضحكاتهم .. يسقط .. تتبدل ضحكاتهم هذياناً مـّراً حين يلمحون وجه أبيهم يتحجر .. يجمد .. يصير كقطعة باردة من الجليد .. تدمع عينا زوجته وهى ترمق وجهه البائس فى وجوم .. تصرخ .. تسرق الصرخة هدأه الليل من حولهم .. يتكاثرون فى لحظات خاطفة .. يتجمعون من قريب وبعيد .. فى الدار الأنيق .. عبر الحديقة الفاخرة .. يلتف الجميع من حولهم .. تسترسل كلمات الرحمة من الشفاه حين تيقنوا موت الرجل .. صراخ حاد ..
- دون شكوى .. !!؟
يقترب بعضهم منها .. يرون فى عيني الزوجة كبرياء وإصرارا على شيء ما .. تنطق عيناها وحروف لسانها بجملة حادة متبجحة :
- يجب ألا تبقى جثته طوال الليل إلى جواري هنا ..
ثم تلقي أمرها في قدرة غريبة تعجب لها الجميع :
- فلنسرع في دفنه حالاً ..... ولنسترح .
تعليق / الرد من
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!
أحدث المقالات
المقالات الموصى بها
التصويت / استطلاع
هل تستفيد من موقع الدكنور حسين صبري؟
نعم
لا
غالباً
83%
0%
17%