الوضع المظلم
  • الاثنين, 06 مايو 2024
نظرية جديدة في التناحة للدكتور حسين صبري

نظرية جديدة في التناحة للدكتور حسين صبري

مصرس : حسين صبري سكتب: نظرية جديدة في "التناحة"

من نافلة القول أن ما حدث بعد ثورة يناير في مصر كانت له تداعياته الايجابية والسلبية ، والتي حارت في فهمها تحليلات الخبراء والمختصين على الطاولات الفضائية والأرضية وعبر أعمدة الصحف المكهربة بفولت القهر العالي ، وتصدى لها كثير من الساسة والمحللين والذاهبين شرقا وغربا دون توقف عن التوهان بين دوائر عرض الفساد والنهب وخطوط طول النصب والاحتيال باسم كل شيء ، الدين مرة والحرية مرة والديموقراطية مرة ، إن من الثابت أن مبارك ونجليه علاء وجمال وزكريا وصفوت وسرور وعز والعادلي وجماعتهم ورغم ما يصيبهم الآن من غم وبؤس وسجن وقضبان ،نشك كثيرا في أنها من جنس الغم والبؤس والسجون التي جرعناها وذقناها على أيديهم طيلة العقود الثلاثة الماضية ، هؤلاء مجتمعون على قلب كائن عجيب ، تتشابك أيديهم ، يرفعونها لأعلى والسبابة والوسطى في عين كل واحد منهم ترسم علامة النصر على كل المنظرين في علوم السياسة والنفس والأعصاب ....و .... وكل علوم البشر ، منذ جالينوس وأرسطو وحتى المبدع أحمد عكاشة مرورا باليهودي الايطالي لامبروزو فان فئة المجرمين الذين تشكلوا في صور البشر قد استحوذت على اهتمامات الباحثين بداية من الفكر اليوناني وحتى اليوم ، حاولوا تحليل وفهم أسباب اندفاعهم الإجرامي وتشخيص حالاتهم وسلوكياتهم ولغتهم وعلاقاتهم وأنماط أفعالهم ، لقد كانت أغلب هذه المحاولات تتم في إطار الربط بين سلوك المجرمين وملامحهم الجسمية مثل قصر القامة وحجم الرأس واتساع الجبهة وكثافة شعر اللحية وحجم الأذنين وضخامة عظام الفكين وهيئة الحاجبين ورسم العينين وبروز الأنف وتربيعة الذقن وشكل الفم و الشفتين ، بدأ هذه المحاولات مفكرو اليونان قديما واستمرت قرونا ، وبعض الناس على اختلاف مشاربهم كثيرا ما أخذوها على محمل الصواب ، ليس في تفسير السلوك الإجرامي فقط بل و الشخصية عامة ، استمر بعض العلماء على هذا النحو حتى جاء الايطالي " لامبروزو " وقام بدراسات اشتهرت في مجال علم الجريمة ، حيث يميل إلى تقرير أن ما يدفع الشخص إلى الجنوح والانحراف والعدوان إنما هو البنية العضوية للمجرم ، وليؤكد علمية ما ذهب إليه فانه يرى أن السلوك الإجرامي مرتبط أيضا بالعمر والجنس والمناخ والغذاء والفقر والبدائية في التفكير والاندفاع في الأفعال ، ونحن نقول إن هذه العناصر السابقة لا تدل على مسببات ودوافع الإجرام عند فراعنة الألفية الجديدة في مصر فقط ، وإنما تثبت براعتهم الفائقة فيما صنعه هؤلاء في أكثر من ثمانين مليونا من المصريين ، لقد ذكر " فرويد " في زمنه إن الميكانيزمات الداخلية هي المتسببة في نزعات الإنسان النفسية خاصة والإجرامية تحديدا ، وكلها تتم وفق استعداد عضوي وبدني ، حتى فرويد يميل إلى الربط العضوي بين الملامح الجسمية والسلوك الإجرامي ، ومؤكد جانبه الصواب في هذه كما جانبه في غيرها رغم تسليمنا بعبقريته الفذة في علم النفس ، لأن مكونات الجهاز العصبي لمبارك وجميع من معه من أصحاب السلطة والنفوذ والإجرام ليست أبدا سوية بأي شكل ، ولا يمكن قبول أن مزاج وخلق كل واحد منهم يعود إلى صفة أو صفات جسمية أو أساس عضوي محدد ، إننا سنجد منهم القصير النحيف والقصير المتين والطويل الضخم والطويل النحيف وصاحب الوجه الدائري والوجه المثلث والوجه الطويل والوجه المربع وساقط الأكتاف وطويل الأنف وأفطس الأنف وكبير الأذنين وصاحب الجبهة الواسعة والضيقة والمتحجرة .... ، هذه الصفات العضوية والعاهات الخلقية - بكسر الخاء وتسكين الألف - أبدا لا يمكنها أن توصلنا إذا ما حللناها إلى وضع أو تصنيف معايير عضوية جسمية محددة تدل على المجرم وسلوكه العدواني خاصة وأن هؤلاء فيهم من أناقة المظهر ولباقة الحديث ما يبعدك تماما عن مجرد الشك في تحضرهم ورقيهم ، إذن ما يجمع هذه الأنماط المتباينة من جهة ملامحهم الجسدية ووجوههم المتعددة ، ما يجمعهم قدرة غير عادية على استغلال حاجات البشر بل واستغلال معتقداتهم وتاريخهم وقيمهم وطيبتهم على أبشع صورة ممكنة ، إنهم لا يلزمون أنفسهم بالإقناع العقلي لمن أمامهم ، إنهم يحملون الناس على فعل ما يريدونه هم بحجج تبدو مقنعة وهي باطلة ، إنهم في الواقع يضيقون عليهم الخناق ويضعونهم في موقف لا يجرؤون معه على أن يظهروا رفضهم أو أن يمتنعوا عن القيام بما يطلب منهم ، هذا ببساطة شديدة يسمى سلوك الإذلال والسحق ، إنهم لا يتورعون عن نشر الأكاذيب وإخفاء الحقائق بمهارة عالية ، حتى أن الواحد منهم يكذب على الناس وهو يعلم أنه كاذب ويروج لأكاذيبه وهو يحاول إقناع الناس بأنه غير كاذب وهو يعلم أن الناس تعلم أنه يكذب ويعلم أن الناس يعلمون أنه يعلم أنه كاذب ... هذه مهارة " سوبر " لا يتقنها إلا هؤلاء ومن على شاكلتهم ، هكذا لا يمكن قبول ذلك التفسير الذي يرجع تلك المهارات الشيطانية إلى صفات جسمية بعينها ، مؤكد هناك عوامل أخرى هي التي صنعت هذا الإجرام، إن هذه الفئة من الناس بارعون في تشكيل اتجاهات وميول الآخرين نحو الأشياء والأشخاص بل وتجاه أنفسهم ، لتخدم في نهاية المطاف اتجاهاتهم هم التسلطية والإجرامية ثم لتؤدي إلى آثار سلبية خطيرة على كافة المستويات البيئية والنفسية والاجتماعية بل والتاريخية والجغرافية والعلمية ، إنهم لا يكترثون في أي اتجاه يسير والى أي مدى يندفع فسادهم ويعيث بأعراض وأجساد وعقول وقلوب الناس فسادا ، هذا ما فعله هؤلاء أصحاب الميول المنفلته وأمثالهم في أماكن أخرى من العالم الحديث عندما يرتقون إلى مراكز عليا في السلطة والقرار ، " هتلر " فعل ذلك وجمع جماهير غفيرة من الألمان حوله بما أثاره من تعصب ضد الشيوعية ، لكنه سرعان ما انقسم الشعب على نفسه ثم عليه ، هؤلاء قادرون في البداية على إظهار موافقتهم على ما يريده الناس والعامة ، إنهم يقولون له ما يحب أن يسمعه ، وما يريدون هم أن تتقبله هذه الجماهير ، قد يشغلهم ذلك سنوات ويستنفذ منهم طاقات وطاقات ، هؤلاء لا يعبأون بالوقت ، الباحثون يركزون على ربط السلوك الإجرامي لهؤلاء بصفات جسمية أو ميكانيزمات نفسية أو مؤثرات بيئية ، ربما لديهم شيء من الصواب لكنه ضئيل ولا يقدم معيارا ثابتا نبني عليه ، إن ما يخلق الإجرام شيء آخر أقوى وأكبر وأعظم في تكوينه وأثره من كل ما قاله علماء النفس وأكدته الأبحاث الجنائية ، يرتبط بهدف غالبا ما يكون حقيرا دنيئا لا يعبر عن إنسانية أو منطقية أو أخلاق ، بل ولا يعبر عن حيوانية أخس الحيوانات ، انه يعبر عن شيطان مارق خارق ملعون مطعون فيه مجنون ، ليس له هدف إلا حياة قصيرة قصر نظره ، لقد جسد هؤلاء بشكل متقن فرعونية الفراعنة وتطاول السفلة وانحطاط الفكر والتوجه والسلوك ، هذا الشيء ما أوصلني إليه استقراء الأمور هو ما أسميه " حزمة التناحة " ، إنها تتجاوز الصفات الجسمية والنفسية والبيئية إلى أبعد من ذلك بكثير ، لأن هذه الصفات لا توصلنا أبدا إلى قاعدة علمية موثقة لتفسير هذا الكم البشع من الفساد والإفساد ، إن حزمة " التناحة " هي الأصل ، هي الجذر الأول ، المنبع الحقيقي الذي يمكن أن يفسر ما فعلوه ، ان قواميس اللغة لا تعطينا أصلا لهذه الكلمة ، لربما اشتقت من لفظة " التنخ " وبتكرار استعمالها ولسهولتها على اللسان والأذن تبدلت إلى
" التنح " بالحاء وليس بالخاء ، هؤلاء الذين يمثلون التناحة مختلفون جسديا ونفسيا وبيئيا فيما بينهم لكنهم متشابهون حد التطابق في تفاصيل التناحة التي تمثلت في قدرتهم على صنع أهداف قذرة والإيمان بها والدفاع عنها وعدم تحويل نظرهم إلى غيرها ، حتى لو كانت إنسانية وأخلاقية وشريفة ، إنهم أصناف من البشر غير أسوياء ، منحرفون بسرعات مذهلة ، لدهم قدرة غريبة على تسييس الآلاف واستقطابهم وتجنيدهم وغسل أدمغتهم وقلوبهم وعيونهم وجيوبهم إلا من عطاياهم وتوجهاتهم وأوامرهم بالإفساد ، بارعون في إعداد وصنع وتنفيذ وممارسة وتحسين وتطوير التبلد والرخامة والصلف والكبر والغطرسة والعجرفة والعنجهية والتعالي ، بارعون في خلق إحساس قوي عند الناس بالدونية والتقزم خاصة عند من تسول له نفسه أن يقترب منهم - على غير هواهم – أو يحاول التعامل معهم أو كسب ودهم ، بارعون في خنق الضمير وإزهاق نزوعه الفطري إلى الخير ، بل يذبحونه وبأيديهم يغسلونه ويكفنونه ويشيعونه إلى مثواه الأخير , وربما تمادوا وبكوا عليه كذبا لإيهام الآخرين بأنهم بشر ويحزنون ، بارعون في السلب والنهب والسطو والغصب وفنون الرعب وملء الوجه بتعبيرات الرضا عما يفعلون والقناعة بأنهم على الصواب وأنهم حريصون على مصالح العامة والخاصة وتطلعات محدودي الدخل ، وربما ظهر عليهم التأثر أحيانا ليوهموا الناظرين والسامعين والمحيطين بأن لهم قلوبا تتأثر وتنفعل وتنجرح جراء مصائب وكوارث المطحونين ، إنهم يمتلكون نوعا غريبا من النهم والشراهة في السلب لم تعهده الأمم من قبل ، يصل حد انتشار السرطان في خلايا أكباد الغلابة والمقهورين في ريف وحضر مصر ، إنهم قادرون على التبجح في تناقضاتهم ، انك تواجه الواحد منهم بما قاله بالأمس وبما وعد وألزم نفسه ثم تخبره بما يفعل اليوم وهو مناقض لما قال ، فترى في وجهه ويسير تحت جلده سائلا غريبا بلا لون أو طعم أو رائحة ، سائلا هلاميا يصعب أن تعثر عليه إذا حاولت تحليل عينة من دمه ، أنت متأكد من وجوده لكنك لن تراه ، هذا السائل أقوي من أي نزوع إنساني للحياء أو الخجل أو السكوت ، هذا السائل من العناصر المهمة والأساسية في أجساد هؤلاء ، بل هو العنصر الفعال في حزمة التناحة ، انه " البجاحة " ، وأصله في اللغة " بجح " - بفتح الباء وكسر الجيم وتنوين الميم - وتعني التباهي والتفاخر ، والدلالة اللغوية لا تحيلنا بالضبط إلى أي شيء يمكن أن يقودنا اللفظ في اصطلاحه ، إلا أنه يمكن التساؤل : إلى أي مدى يمكن أن يتبجح الشخص بأنه لص وفاسد ومعدوم الضمير ؟
هؤلاء الذين " تبجحوا " و " تنحوا " بتشديد النون ، لا يملكون ولا يمنحون أنفسهم فرصة ولو لثوان معدودة لمراجعة أنفسهم أو الجنوح للسلم أو الاعتراف بالخطأ أو إعلان التوبة أو الندم أو التحسر على إفسادهم وأذاهم للناس ، أو مجرد التفكير أن هناك يوم سيقف فيه أمام من لا تخفى عليه خافية ، هذه هي منظومة التناحة.. فهل من محلل يتقي الله فينا ويضع لها إطارها العلمي الذي يمكن أن يفيد مصر في المستقبل ؟
هؤلاء أفادونا ... أعطونا دروسا وعبرا ما كنا نحلم بأن نصل إليها ، في السياسة وفي الأخلاق ، هؤلاء جعلوا المصريين يتجاوزون حد الصبر المر حتى يصلوا حد إحساس الشاة عند ذبحها وسلخها بل وأكلها .
إن هذه الحزمة وتلك المنظومة المتكاملة من التناحة لها قدرة تفوق قدرة أنفلونزا الطيور والخنازير والقردة وكل الحيوانات الأليفة وغير الأليفة على التحور والتطور والتغير والسيطرة ... هذا ما ننبه إليه ... إنها معدية بشكل نافذ وسريع ومباغت متى لاقت الدناءة والخسة والغباء في كائن آدمي ضعيف متهالك ، تهاجمه ، تفترسه ، توجهه مع أشباهه إلى امتلاك واكتساب وإتقان كل مفردات حزمة التناحة . انها تدفعنا الى سؤال :
هل ما صنع تلك التناحة هو التنشئة ؟ أم البيئة ؟ أم جينات وراثية ؟ أم تهافت وتدليس المقربين منهم ؟ أم أن السبب نحن الذين صنعناه بأيدينا ؟ يبدو أن إجابات هذه الأسئلة جميعها تستحق الوقوف عندها وتدقيقها .
مؤكد إن قراءة التاريخ فريضة شرعية ومنطقية وعلمية وواقعية بل ونفسية ، لكن هؤلاء – وهذه من مكونات التناحة – لا يريدون أن يقرأوا لا تاريخا ولا جغرافية ولا حتى أبجديات الإنسانية ، ربما قرأوا ولم يفهموا ، وربما فهوا ولم يتأثروا ، وربما تأثروا وأصابهم الصلف والعناد ، لأن هذه من مقتضيات التناحة ، أخذتهم العزة بالإثم فكانت ردة فعلهم – ولازالت – إغراقا في التبجح وإمعانا في الضلال ، إنها شهوة التتنيح التي يبدو أنه لا حدود لها - حتى الآن - عند فراعنة مصر الجدد .

 

تعليق / الرد من

تابعنا على وسائل التواصل الإجتماعي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

التصويت / استطلاع

هل تستفيد من موقع الدكنور حسين صبري؟

عرض النتائج
نعم
83%
لا
0%
غالباً
17%